النخبة والعامة- صراع الفكر في زمن التواصل الاجتماعي

المؤلف: عبده خال11.02.2025
النخبة والعامة- صراع الفكر في زمن التواصل الاجتماعي

عبر العصور، دأب الفلاسفة على النظر إلى عامة الناس باعتبارهم دعامة الفكر الساذج، وآلة لنشر الأقاويل الواهية دون تدقيق أو تمحيص. وكثيراً ما استُخدموا كأدوات لنقل الاتهامات، وهو اعتقاد ترسخ بناءً على ما يلاقيه الفلاسفة من تحقير وازدراء لأفكارهم عندما يُستغل العامة في مواجهة أي فكرة فلسفية أو مخالفة للمألوف.

في غابر الأزمان، واجه الفلاسفة وأصحاب الفكر المستنير حملات شعواء، واتُهموا بالزندقة والابتداع ونشر الرؤى الفاسدة. وكان العامة أداة طيعة لنقل هذه الاتهامات والتواصي بنبذ أفكارهم وعزلهم، حيث كانت فئة "السمعية" تنشر ما تسمعه دون أدنى اهتمام بتمحيص الحقائق، سواء كانت حسنة أم سيئة. إلا أن أصحاب الرأي الرصين شاركوا في هذا التصنيف، معتبرين العامة هم الداء، والغوغاء، والرعاع، وسقط القوم. وفي المقابل، كان العامة يرون أن المفكرين مجرد أشخاص منفصلين عن الواقع، لا يملكون سوى القدرة على الكلام المنمق. كلا الحُكمين يسقط في فخ التعميم ويفتقر إلى الموضوعية.

وفي حقبة لاحقة، ظهر مصطلح "النخبة" للإشارة إلى أصحاب الرأي السديد من الفلاسفة والمفكرين والمثقفين والأدباء. ارتبط ظهور هذا المصطلح بفئة صغيرة من الأشخاص الذين يسيطرون على مجريات الحياة الاجتماعية، ويتمتعون بنفوذ كبير وقدرة على التأثير والتغيير تفوق غيرهم.

إلا أن هذا المصطلح "النخبة" سُرعان ما انتزع من أصحابه الأصليين وأُطلق على الكتاب والمفكرين، بينما اعتُبر بقية الشعب من العامة، وذلك تحاشياً لوصفهم بالغوغائيين. ومع مرور الوقت، اتسع نطاق استخدام مصطلح النخبة ليشمل النخبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن هذه النزعات الثقافية ليست وليدة اللحظة، بل هي ظاهرة متجددة تتغير بتغير العصور والأحداث والأفكار التي ينتجها الحكماء والفلاسفة الذين يفضلون الاختباء خلف ستار من التكتم، تاركين أفكارهم تتحدث عنهم.

عندما قام عالم النفس الاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون (1841-1931) بتأليف كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، قام المفكر هاشم صالح بترجمته إلى اللغة العربية.

يعتبر هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في دراسة الشعوب والجماهير وتصنيفها، خاصة بعد ظهور علم النفس الاجتماعي. ومن الطبيعي أن أحكام لوبون كانت مبنية على ظروف عصره، ولا يمكن اعتبار سيكولوجية الجماهير ثابتة لا تتغير. فالمتغيرات هائلة وأدوات العصر تشهد تحولات جذرية. فقد بات الناس يعيشون في عالم أشبه بالغرفة الواحدة بفضل التكنولوجيا الحديثة، فهل يعني ذلك توحيد آراء العامة؟ بالطبع لا. إلا أن أهم ما يميز العصر الحالي، عصر شبكات التواصل الاجتماعي، هو إسقاط النخب. فهل انتصر العامة على تلك العقول التي تعتبر نفسها موجهة للمجتمعات؟

المساحة المتاحة لا تكفي للإسهاب، ولعل لي عودة في مقال لاحق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة